عبداللاوي:الأستاذ الجامعي بقلم أحمد بوقراعة


عبد اللّاوي : الأستاذ الجامعي
لمْ يكن له من الخلّان و الأصحاب سوى عجوز أتمّتْ المئة كما أتمَّ اسمهُ المئة في الأسماء الحسنى.وضعتْهُ وهي في الأربعين من رجلٍ لمْ يَرَ ولده قَطّ ، و لمْ يَرَهُ النّاسُ منذُ أن استعصى على هذه الرأس الكبيرة ترك الظّلمة إلى النّور إلّا بعد أن استعانت ولّادة مشهورة بصاحب مقام هو عند الله عال اتّخذ حفرةً في رأس جَبَلٍ يرقى فيها إلى الله .إنّه عبد اللّاوي ، الوليّ الصّالح ،و لذلك حمَلتْ هذه الرّأس الكبيرة اسمَ المُسْتَعَانِ بِه.
كانت هذه الرّأس الكبيرة لا تستوعبُ عِلْمًا إلّا إذا امتزجَ بعلم آخر .فكان إذا امتحن في النحو كتب في المنطق ،و إذا سُئِل في الشريعة حرّر في اللّاهوت و الإسرائليّات و إذا اخْتُبِرَ في الفيزياء توسّع في الصّناعات ،و ما أراد أن يعبِّرَ عن رأي إلّا ذهب لسانه إلى المشتَرَكِ في اللّغات ، و يكاد يتقيّؤُ من ضحك إذا أراد أن يُرَوِّحَ على غيره بِمُزْحَة ، ولعلْمِه الغزير و عظمَة رأسه و لقلّة علْمِ أساتذَتِه و صغَر رؤوسهم لَمْ يكنْ يَتجاوزُ سنتهُ الجامعيّة الأولى إلى الثّانية إلّا بعد مضيِّ تسع. و اليوم وهو في عقده السّادس هو أستاذ ، الأستاذ عبد اللّاوي الجامعي .كانت حياة الأستاذ عبد اللّاوي قطارا قديما كثير الصّخب ، معرّج الأبواب ، مكسّر النّوافذ يسيرُ على سكّةٍ مُخَلْخَلةٍ ، جعلهُ الكبار مَسْرَحًا تهذيبا و تهريجًا للصّغار يطوفُ بهم بين المدن و الأرياف يُرْهِبُ مُخِيفًا عَنِيفًا و يُطَمْئِنُ سَخِيفًا لَطِيفًا.
سُمِّيَ عبد اللّاوي جَامِعًا لِجَمْعِه الصّفة ونقِيضهَا حَتّى أنّه إذا ضحك بكى و إذا بكى ضحك . فأوقف عليه البلاغيون مصطلحًا جديدًا هو "المَأْسَلْهَاة" مُصطَلَحًا جامِعًا مانعًا . واختار له الحفّاظ و الرّواة بيتًا شعريًّا في حذامي بنت الريّان :
إذا قالت حذامي فصدِّقوها
فإنّ القولَ مَا قالت حذامِي
على أنّه إذا اجتمع في نَاسٍ كذّبَهُ الصّادِقُونَ و سَبّوه و عَيَّروه وصدّقه الكاذبون ومدحوه ورفعوه وهو فيهم ضاحك للمكذِّب لَوْمًا و نِقْمَةً و عَابِسٌ في وجه المُصَدِّقِ حَزْمًا و عَزْمًا
فَيضْحَك لَهُ ومِنهُ و عَلَيْهِ الجَميع
كان عبد اللّاوي ذا لسان فصيح فيه فحيح،وذا دين صحيح في كلّ مسألة غير شحيح ،وذا ثوب مريح في كلّ الألوان تستريح .فإن سُئِلَ عبد اللّاوي عن رأسه الكبيرة قال و أيّ عقل كبير يمكن أن يسكنَ جمجمة صغيرة ، وإن سئِلَ فيمَ تلك الجمجمة ناتئة من جهات قال -كلّما نظر ساكنها في جهة نتأَ منها عظم وكلّما قرأكِتَبًا سقطتْ شعرةٌ فهي ملساءُ
إلّا بعض شعرٍ يَبُسَ و طال فهو كالذّيْلِ قد أُهْمَزُ به ومنهُ فَأُسَاقُ إلى وِجْهَةٍ تُرَادُ. وإذا تعجّب النّاس من أذنِيْهِ الكبيرَتَيْنِ أجابَ بأنَّ ذلك ما فضّلَهُ الله به عن النّاس تَلْتَقِطَان همسَ القاعد للرّاضِي و إسْرَارَ القائمِ للرّافِضِ . و إذا أنكرَ عليْهِ أحدهم طُول لسانِهِ قال حتّى أُقَيِّد به أمثَالكَ . وعبد اللّاوي مع كلّ ذلك طويل القامة عريض الصدر صغير العين حقير البصر و قليل النّظر ، نحيف السّاقين هزيل الركبتين.
ما يئس عبد اللّاوي من نظام حاكم و ما يئس منه نظام جديد قائم ،فهو كسلّة المتسوّلين تجمع كلّ شيء.يسُوقه نظام بذيل رأسه فيَفُوتُ العِقْدُ و العِقْدُ يَمْدَحُ عبد اللّاوي نَاسًا و يَسُبُّ نَاسًا ، ويقْدَحُ في السّابقِ و يُمَجِّدُ حاضر القائم ، داهيةٌ كَذّاب يَلْوِي عُنُقَ الفضيلَة فتصيرُ رذِيلة، و خبيث يَكْسِرُ سَاق الصّدق فيصيرُ أعرجَ و يُلْحِمُ سَاقَ الكذِب فيمشِي كالصّحيح بينَ النّاسِ .خادِمٌ خَدُومٌ مُطِيعٌ ثَمَّ أمين إلّا لذاته يضْرِبُ للنّاس الأمثال ونسِيَ نفْسَهُ ، عامِلٌ يُصْلِحُ مَفَاسدَ كلّ نظامٍ في أعْيُنِ النّاس وفاسِدٌ أفْسَدَ عُمْرَهُ تأْكُلُهُ الأعوام .يُقَرِّبُ و يُفَرِّحُ خَلْقًا و يُغِيظُ و يُنَفِّرُ نَاسًا . فَرِحٌ إِذْ يَفْرَحُ بِهِ الكبارُ و لوْ كانُوا حَمِيرًا و يخافُهُ الصِّغارُ و لو كانت ذرّةٌ من عقُولهم تعْدِلُ قنْطَارًا ، وهو مع ذلك لا يفْرَحُ إلّا مَرّةَ واحدة كلّ عقديْنِ يتركُ سنته الأولى جامعيّة إلى الثّانية بِأمْرٍ أو واسطةٍ فلا يُمْتَحنُ أو يُخْتَبَرُ فيزدادُ لسَانه طُولا وتزداد أذُنَاهُ كِبَرًا واتِّسَاعًا ، كالتمساح سريع الإنقلاب على ما فات مُخْرِجٌ من عَوْرَتِه زهْرَةً و مُخْرِجٌ من عُقْمِ الحاكمينَ ثَمْرةً يُفَصِّلُ آيات قَدَمٍ جَاءتْ منِْ عَسْكَرٍ اوْ فَمٍ عَرِيضَةٍ تَحْتَهَا مِخْلاة أو مُحْيٍ مَا كَان قدْ مَاتَ في الصِّين والسّوفيات .يَحْرِثُ و يَزْرَعُ غَبِيًّا شَقِيًّا لِيَسْتَظِلَّ و يحْصِد غيره.
تأكلُ الأعوامُ عمْرَ الأستاذ عبد اللّاوي أكْلَ الغافِلِ عن شِيَاهٍ في خضْرَةٍ .
استيقظ ذات ربيع عن فاجعة لم يُحْصِ لها مقدّمة أو جوهرًا فتاهَتْ عنهُ الخاتمة .
فاجعة زوال الفرد و الحزب ،فصارَ الفَرْدُ قِرْدًا و صار الحِزْبُ حَرْبًا .لقدْ كان قطارًا يرْكَبُهُ الملايينُ خَوْفًا أو طَمَعًا أو نِفَاقًا يُصَفِّقُ البعضُ لرجل واحد فَرَحًا و يبصُقُ آخرون خفْيَة و يُسِرُّون لَعْنَةً .فأنّى له ذلك وقد صار القرد قِرَدَةً و صارتْ الحرْبُ حُروبًا ؟ فاجعة
أضَرَّتْ به فتضاءل و تصاغر عَرّاهُ النّاس من المُضافِ لِيُنْعَتَ ب"اللّاوي" مُبْعَدًا مَكْرُوهًا و مَتْرُوكًا مَنْبُوذًا. لوَى جُمْجُمَة رأسِهِ النّاتئة إلى الجامعة فحاصرتْهُ الأعْوامُ بالعقْدِ السّادسِ يُنْهِيهِ ليَصِيرَ أسْتَاذًا قدْ يُعَلِّمُ بالجامعة وقدْ يَجِدْ بيتًا يَكْتَرِيه ليُؤْوِيه.
ظَلَّ عبد اللّاوي يجُول في أزقّة لَمْ تطَأْهَا رِجْلُه من قبل و يسِيحُ في طُرُقَات ضَيِّقَةٍ لمْ تَرَهَا عَيْنهُ الصَّغيرَة فمَا عَثَرَتْ بِهِ رجْلُهُ إلّا أمام بَيْتِ امرأة يَعْرِفُهَا كلّ مَن غَضِبَ الله عليْهِ .فرحَتْ بِه إذْ عرفت أنّه أستاذٌ جَامعِيٌّ و رحّبتْ بِهِ و أطعمته مَا لمْ يُطْعِمْهُ من قبلُ أيّ حزب ، وفرشتْ له مَا لم يفْرِشْه لَهُ حاكم و ضحِكَتْ لهُ ضحْكَةً لمْ يَرَهَا في أفْوَاه نِسَاء الجَمْعِيّات و أحْزَابهنّ .و روادَتْهُ لَيْلًا التي هو في بيتها عَن نفسه فاسْتَعْصَمَ و قال إنّي "أستاذ جامعيّ" يُردِّدُهَا كلّمَا احتالتْ عليه تدنُو منه تُغْرِيه فَيَئِسَتْ تَظُنُّ أنذ به تعبًا فأطْفَأتْ كَيْدَهَا رُبَّمَا تُسْقِطَه ابتسامة أو تُحْيِيه لمسَة لَيْلتهَا الأخرى فَأغلَقَتْ عليه بَابَهُ دُونَ أن تَغَلِّقَ عليْهَا بَابَهَا لِتَسْتَيْقِظَ صباحا فَتَجِدَهُ يُسَرِّحُ نَظَرَه منْ نافذة في ساحةٍ بِهَا دَجَاجاتٍ كثيرة حِسَان ذات ريش مختلف الألوان ، زاهية فرحة العرج في غيرها عاهة ، تختال تنبش التراب و الرّمل في رفق ، وتنقر الحبّ في حياء بملقاط مذهّب تختار أفضله و تتهاداه و فيهِنّ ديك عظيم على رأسه تاج كأنّه زهرة أقحوان .ريش منفوش و منقار طويل في جمجمة نا تئة صغيرة . لا يستقرّ في مكان ن رجله في كلّ الأنحاء ، قفّاز صيّاحٌ صَقّاعٌ صَوّاتٌ .ينقر دجاجة و يبرك أمام أخرى كالمتودّد المتقرّب . عينه شوّافة تتوعّد اللّئيمة و تطمئن السّقيمة و تضحك للرّاضية التّابعة البهيمة .يزرع الصِّياح فيحصد من دجاجة ابتسامة ومن أخرى شَتْمًا و قدْحًا ، ومن ريش منفوش يزهو تملّقًا و كذبًا يجْنِي سُخْرِيّة .
بقيَ الأستاذ الجامعيّ محدّقًا في ذلك و ظلَّتْ المرأة تراقبه في صَمتٍ فالتفتَ إليهَا مُسْتَغْربًا مُتَعَجِّبًا ليَقولَ لَها "عجَبًا ديكٌ مملوء وصوتٌ حسن ودجاجات حِسَان سِمَان فَأَيْنَ الفِرَاخ ؟"فنظرَتْ إليه نظرة المرأة المجرّبة في بصر أعشَى في وجه أحمق و قالت ساخرة "ذاك الدّيك ، هو أيضًا مُثَقَّفٌ و أسْتَاذٌ جامعِيّ".
فترك البيت ليجول في شوارع أخرى و كأنّه قد فهم مَا حدّثتْ به المرأة ، أو كالمُسْتَفيق على صدمةٍ أخْرى.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شتوية ما كيفهاش جزء 1 بقلم رؤوف سليمان

حكايتنا بقلم سمير الفرحاني

أنا البحر بقلم عماد إيلاهي