سفر خارج المجرة بقلم طارق القلعي
#سفر_خارج_المجرّة
هيّا/...شدّوا أحزمتكم ولننطلق..
خمسون عاما وأنا مشدود إلى التاريخ والأرض والجغرافيا والتضاريس والعائلة والمجتمع ...في قمقم غريب...
خمسون عاما وأنا اراوح نفس المكان ونفس العادات ونفس التقاليد ونفس الأفكار ونفس الدين ونفس الشريعة ونفس الأحكام ولا شيء تغيّر..
شددت الرحال..أو.... أجبرت على الرحيل في بدايات العقد الثاني من عمري لأجل الدراسة...و كان يسكنني:
طفولتي الأولى..
صباي.. ..
حليب أمي ..دمعها ..أوجاعها...
خوار البقر ..مواء القطط..نباح الكلاب
وصوت العصافير ...
حتى غيم السماء كان يرافقني..
وظلال الصفصاف
وطعم الشربة بالحمام..
وصوت خرير العين في ضوء القمر..
رحلت عن المكان مجبرا غير أن المكان بكل تفاصيله كان يسكنني...
شدّني الجبل إليه كأنه مغناطيس يحوطني من كل الجهات...ويجرفني الماء بعيدا غير ان ماء العين كان أشدّ عذوبة وريّا من كل المياه...
رحلت جسما وعقلا وروحا وكراهية ..لكنني ما زلت هناك مسكونا بالسنابل احصدها واضعها( اغمارا) في( حِلّة) لتكون في البيدر وأنا بينها العاشق الأول والأخير وصهيل الفرس يردّد اسمي كلّ حين...
وما أجمل اسمي في حمحمة الفرس..أنا أعرف لغة الخيل يا أبت...وكان يقول دعوا الخيول له إنه يفهمها وتفهمه...
تقدّم العمر خطوتين وبراحا...ووجدتني محاطا بمن لم أضرب لهم في الحياة موعدا.. ...ووجدتني مع صلبي..وكأنني لست أنا.....
وجدتني انصافا واشلاء ومزقا تكتبني المدينة وتغرقني في عرقها وإسفلتها ونفاقها ووجعها الذي لا ينتهي والبادية تسكنني والبدوي لم يغادرني لحظة واحدة...
رحلة عذاب لا يراها سواي..
ومازلت كأنني الصبي الذي لم تمرّ عليه الأيام ...
رحلت من جديد لكن هذه المرة كان الرحيل في داخلي ..في عالمي العميق وأغواري ...كانت الرحلة عسيرة مبهمة ..لا مدائن ولا ريف ولا قرى...أدغال النفس متعبة ..ولا خارطة لدي ولا علامات...
الدواخل غريبة جدا.. فجاج موحشة...غير ان هناك بصيصا من ضوء أو نور أراه من بعيد يأتيني في شكل لمسة وأحيانا همسة ..وأحيانا يتجلى في الحلم ..واحيانا أخرى يدق على بابي في شكل دمعة صادقة او امراة تنسيني كل العابرات...
السفر انقطاع عنهم ...
اوهم نفسي ان لا أرض لي ..وتلك الحقيقة..
أوهم الفكرة أنني ابحث عن نبع جديد ...ونبع الخلود بداخلي...
رحلتي الآن في صمت المرايا رفقة هبة استثنائية جاد بها الزمان حين قررت الرحيل...تشرين...
خمسون عاما ...زمن لا بأس به / كنت وحدي...ربما الآن تتضح معالم الطريق داخل أغواري...ضوء ما ينبعث من هناك ..سأعود إليكم لعلي آتيكم منه بقبس أو أجد ثنية مع وافدة تشرين.... مع تشرين

تعليقات
إرسال تعليق