هلوسة بقلم عمار العوني
كأنني أستحم بماء الحنين و أنا أجلس الى طاولة يشغلها بعض السكارى..الأصوات المتداخلة تذكرني بالجبل هناك..أشعلت سيجارة من أخرى و دخنت
-أقصد هل تسمع صوتا غير عادي هنا؟
-لا...سوى طبقرف...ماذا علي أن أفعل وسط هذا الخراب..؟
انعطفت يسارا حيث الجامع الكبير يرفع اذان العصر..دلفت كغراب..توضأت و صليت ركعتين..كان الصوت لا ينفك يهدر..استعذت بربي و بقيت أسبح حتى اقامة الصلاة...كنت مرتعبا..قد يفسد الصوت صلاة الاخرين و يفضحني...هممت بالخروج ثم أسلمت أمري لخالقي..
انضممت الى اخر صف قرب الباب ..ركعت مع الراكعين و سجدت..أنهى الامام الأربع ركعات بعد لأي شديد فانسللت الى الخارج و غصت في المارة..الحمد لله،لم يلحق بي أحد..وحده الصوت يجلدني.
مثل قصبة في الريح أتبعثر ذات اليمين و ذات الشمال..لا أتماسك..استندت الى شجرة وبقيت أرقب المارة..هذه روسية تعبر الشارع في خفة ..تستحق عشرة على عشرة..جمال اخاذ..قوام رشيق و قفزة رشيقة ..انطلقت خلفها دون ارادة..كنت مخطوفا .
سبقتها بأمتار ثم استدرت وعدت أدراجي كي ألتقيها..ابتسمت لها فابتسمت ابتسامة خفرة..وأحنت رأسها قليلا فطار صوابي..وددت لو كنت ابليسا كي أغويها..يا لحزني علي!
طال تسكعي في هذا الشارع ..قادتني قدماي الى تلك الساعة المنتصبة في فراغ الزمن...عقاربها متوقفة عند السابعة..وقد يطول هذا التوقف الى عصر اخر...وضعت محفظتي على الارضية و جلست فوقها لئلا ألوث ملابسي..اختطفني مبنى وزارة الداخلية فأحسست بألم يعتصر رأسي...عاد ذهني الى تلك الأيام التي قضيتها داخلها..فأشعلت سيجارة و شربت المتبقي من قارورة الماء التي سخنت..ما رأيت هذا المبنى الا و جف ريقي..
يطفو الصوت مجددا فأسارع الى مغادرة المكان..قد يزعج الحاكم بأمره هناك..وأنا لست جاهزا للرحيل..وأمي غير حاضرة للنحيب..انهرت على اول كرسي في المقهى المجاور و طلبت قهوة و قارورة ماء..ما أمر هذه القهوة كأنها الحنين..هل قلت :الحنين؟..يا كم أسبب لنفسي أمراضا لا قوة لي لمقاومتها..!!
أغوص في مخلوقات الله قبالتي..يبدو الشارع فقيرا الى الناس رغم الاكتظاظ..أين المترجلون..؟أربع بنات وثلاث عجائز و بصير يجلسون متناثرين في المقهى..ما الذي جعلهم يحجبون عني الاخرين؟..حسنا،مرت فاتنة لاهبة..لنكسر عمود الوقفة..أنا سريع الاشتعال يا دادة..قارورة ماء و قهوة وكأسان..!..ما الذي يدور في ذهن النادل؟..فأل خير ربما..ساعقد النية..أنا وحيد يا ربي..الشعراء والكتاب والرسامون مازالوا نائمين..الليل لهم..نحن فقط نسافر حفاة الا من ذنوبنا في أقاليم الليل و مفازات النهار وننزرع في الحياة كما اتفق..يقترب مني ماسح الاحذية الذي تحيل علي في المرة السابقة حذرا..
قلت له:حذاء الطنبوري خبأته للشتاء.
قال:لا تغضب..سأخدمك مجانا هذه المرة..ثم صب كأس ماء..هل يبدو صفيقا أم أليفا...لا يهم..بالشفاء.هم به النادل حين أبصره فأومأت له.
هناك ،اوراق شجرة الزينة تتهاوى ..تذكرني باوراق شجرة العمر..ترى كم ورقة بقيت لأحياها..؟
الوحدة مدمرة لذلك فتحت هاتفي لأنشغل قليلا..ثمة شجار الى الخلف..بنت تلعن ربها وولد يطيح بهمته على مراى من الله..العاملة المشتهاة بمحل ايفزيون تحييني كعادتها بابتسامة تفتت الحصى في عيني..تتسع حدقتاي..تغرد الحساسين في صدري ويلفحني الجوى..
خاطبتني البنية:يا اخر البدو،ابتلعتك القصرين؟
في هذه الاثناء يمرق سرب من السياح فيحجبعا عني..أشتهي أن اخطب فيهم الا انني أتذكر ذيل الثور فأرعوي..-مرة صيروا ظهري ألين من بطني-..مدت المتسولة يدها فصببت لها الماء وبعض النقود..يقطع رنين الهاتف اعتمالاتي..وحين أبادر بالرد لا أجد من يطلبني.. هو الصوت مجددا يطاردني..حيرني هذا الصوت..لو كان واضحا لعلمت الطالب والسبب..لكنه اجش..كأنما يصدر من قبر قديم...تذكرت تلك الموسيقى التي اسمعها كلما زرت المقبرة...
من الجهة الاخرى للشارع ،لمحني أحد الاصدقاء فجاء ..سلم و جلس ثم قال:أنت لا تخفى على أحد..رأيتك من بعيد و عرفتك.
قلت:الغرباء جلابون للعين.
قال:لا اقصد.
قلت:أنا أعرف..لا عليك..سررت بقدومك يا ابن أمي.
الصوت يعلو مجددا..قلت لسمير:أتسمع؟
قال ضاحكا:طبعا..ام خلتني شر دابة؟نين الاخرين..هذه الزنابير الادمية.
تأملني صديقي مليا وقال لي:أراك مخطوفا..ما خطبك؟
أجبته على مضض: صوت ما لا يتركني أهدأ..لعله موعد للحب او للموت..لم اتبين أمره...لكنني سمعته قديما لا ادري أين..و علي البحث عنه في الاماكن التي أزورها عادة..من يدري...؟
في خضم هذه البلبلة،تذكرت موعدي مع احدى صديقاتي بفضاء معرض الكتاب..اللعنة ..أخذتني هلوساتي وتأخرت..لا عذر لي ولا ذنب لها..أخبرت صديقي بالأمر وعرضت عليه مرافقتي فرفض قائلا:أنا بدوري على موعد مع قارورة..وافترقنا..كل الى غايته...


تعليقات
إرسال تعليق