العين المكيّة أحمد بو قرّاعة : تونس من كتابي :العاصفة و الماشية و الصنم
و كنتُ يومًا في بعض أحياء مكّة وكان الحجُّ. كنتُ أتمشَّى أبحثُ عن تيه أستبدل به بعض راحتي واطمئناني. و توهّمتُ أصواتًا كنتُ أسمعها في دُورِ الخناء. و تَسَلَّلَ إلى سَمْعِي صوت تلك العجوز يُغْرِينِي و يَفْضَحُ فيّ النّداء والرّغبة، و طَلَّ رأس المرأةِ التي قَبْلَ أنْ أصبحَ مرشدها للتقوى مَشْدُودًا إلى حياء فخذيْها العارِيَيْنِ، فقامت فيّ الحياة وتشعّبت المَسَالِكُ وتخطَّطَ جسدي جروحًا واختلطت عليَّ الشوارع فَعَمِيتْ عَيْنِي عنْ كلّ طريق، وإذا أَنَا بعين كبيرة مدوّرة وقاسية تُحاصِرُنِي وتحصرني فاسْتفقتُ مذعورًا، وخِفْتُ أنْ تكون العين من ذلك البلد الآمن فَلَطَالَمَا رَويتُ لِأصْدِقائي مَازِحًا بأنّ العين المكّية إذا أبصرتْ غريبًا سرعان ما تحوّلت إلى أذن كبيرة كالرّادار تلتقط أخبار القلب ونواياه وخواطره. وكنتُ أشرحُ ذلك لأصدقائِي بأنّ هذا التّحوّل إنّما هو النّعمة الكُبْرَى التي أنعم بِهَا الله عَلَى الأهل حتّى إذا طافوا في شعاب مكّة الآمنة وصادفوا غَرِيبًا طَافوا أيْضًا في صدره فَعَرَفوه، فالكذبُ في مكّة حرام. و لكنِّي تراجعتُ وقلتُ هل أصدّق كَذِبِي و ما النّاس بمكّة إلاّ قلب رحيم و عقل نظيف ويد بريئة وسخيّة، ونحن إن لم نكن لهم تجارة رابحة فلنعتقد نحن بكلّ براءة وسذاجة بأنّنا ضيوف الله ولْيَكُنْ من يخدمنا خادِمًا لله أو يَعْصِي والله أقوى وأَدْرَى، ولن يطول بقاؤنا في هذا البلد الأمين و سنلتزم الحياءَ إلى حين فَلاَ يتسلّل نظر إلى وجه جميل. وحتّى إذا بَدَا علينَا هيامٌ أو تَعَبٌ فإنّ الذّاتَ بِمكّة لا تهيم إلاّ في الله ولن تبصر العين سواه ولَنْ يخطر في الرّوع غير وجوده، والإيمان القويُّ يكون ثقيلاً في الصدر كأمٍّ حُبْلَى بخمس.نظرتْ إليَّ العين بقسوةٍ فكدْتُ أخجل. كانت لاَ ترتعش وكانت رموش عيني لا تقف. طَأْطَأتُ رأسِي وحيّيتها بأدب وسلام وهممتُ بالانصراف فإِذَا العين استَوَتْ أمامِي كالجدار فانعكسَتْ صورتي عليها فرأيتُ نَفْسِي أتعرّى ورأيتُ صدري ينفطر في هدوء. و بَانَ قَلْبِي شريَانهُ الأيمن العجوزُ، وشريانه الأيسرُ رأس المرأة فجزعتُ وخِفْتُ. و تغيَّر الجدار عَيْنًا كبيرةً دَارَتْ كالعجلة ثمّ غابتْ في آخر الطّريق. و سمعتُ بَعْدَهَا الأذانَ فهرولتُ نحو المسجد حتّى ألحق بالنّاس.
كنتُ أستفرِغُ شَهْرًا كاملاً وطويلاً في العبادة، وأطلب نفسي بقيّة شهور السّنة القصيرة. ومع كلّ مَا أستهلكه في تلك الشهور القصيرة والقليلة من أصواتِي ومِمَّا حَرَّمَتْهُ الشريعة والأرض على النّاسِ غير العُقَّلِ و سائِرِ الحيوان الصّغار، وكلّ المُتَهَافِتين التّافهين، ومع كلّ مَا قيلَ بأنّه لمْ يَحْسُنْ إيماني، فإنّي في ذلك الشهر الطّويل أكَادُ ألْمَسُ التقوى بيديَّ الهزيلتَيْن، وأكاد أكون خَزّانًا كبيرًا لأشهر الجَدْبِ، ويكاد يكون لِساني تسبيحًا وترويضا وتهليلا ودعاء كالمروحة لا يَدور سريعًا إلاَّ بالله والرّسل والأنبياء،وأقارب لو أَحْصَيْتُ، الخمسين ألف ركعة في الليلة الواحدة، وأستحضر القرآن مرّتين في اليوم و لا أغلط أو يصيبَ لِسَانِي اعوجاج، ولا أطعم، ولاَ يستميلنِي وَجْهٌ جميلٌ، حتّى أصير من فرط عبادتِي ونَصَبِي هَيْكَلاً تَصَّعَّدُ إليه أتْقَى الأرواح، وتصير رائحتِي من الجنّة، وإذا مشيتُ لا أحسّ برجْلي فوق الأرض، خفيفًا أتنقّلُ فيكاد يبدو لبعض مَا بقيَ منْ يَقظتي بأنّه يُسْرَى به في كلّ لحظة حتّى إنّه لكثرةِ الإسراء لا أتبيّنُ الأماكن والمساجد إلاّ أنّي إذا تنبّهتْ عيني لحظة وجدتُ نفسي بمكّة مَا شجّعنِي أنْ أَهْلَكَ فيها كلّ طول الشهر من السّنةِ.
استغربتُ ذلك اليوم كيف تنفلتُ مِنّي رُوحي وتستيقظ فيَّ نفسي وأنا أحملها وأجهدها على الرّوح وعَلَى الله وعلى الطّاعة، وكيف أطلبُ مَا لَمْ يكن عَادَتِي وانشغالِي، وكيف أستبدلُ الرّاحة بالتّيهِ، وكيف أتوهّم وجه العجوز ورأسَ المرأة، وكيف تحضرني دور الخناء وأنا بمكّة روحًا. فقلتُ ربّما مَهْمَا يكن الإنسان مخيّرا ومُسَيْطِرًا عليه فإنّ نواة التخيير التسيير، أو ربّما الشيطان خاف على نفسه من شهري ومِمَّا أختزن، أو على نفسي مِمَّا تحفظ، أو ربّما أيضا قد يكون يومًا غير عَاديٍّ ولكن قرّرتُ في نَفْسي أن أبقى يومًا آخر بعد الشهر بمكّة أعوّض به هذا اليومَ إذا استمرّت نفسي على هذه الحال.
كانت أحبّ الصفوف إلى نفسي الأمام. و مع أنّ إحساسِي بأنّ الإمامَ ليس أنظف مِنّي وأَتْقَى، بل إنّه لاَ يُمكن أبدًا أن يَصِلَ إلى مرتبتِي إذ أنّ أغلبَ الأئمة حتّى في سجودهم وقعودهم وبَرْكِهم لاَ يَصِلُونَ النّفس بالسّماءِ ولاَ ينقطعون، كانَ إحساسِي بالاقترابِ إلى ذلك الصّوتِ شديدًا يقرّبني أكثر من الله. وبِمَا أنّ الحياء من الدّين احتلتُ بأَنْ أدخلَ المسجد بعد التكبيرةِ إذ يستظهر الخَلْقُ بِالخشوعِ والانقطاع وعَمَى العين فأزاحمُ بعضهم بِلُطْفٍ حتّى أَصِلَ إلى الصفّ الأوّل وعلى تَرَاصِّهِ أَلْتَصِقُ بِالحائِط وأكتفِي بِمَا لاَ يسعني عَلّنِي أجد الفسحة عند الله. وكنتُ ألحظُ نظرات بعض مَنْ لمْ ينقطعْ تلمحُنِي بقسوةٍ فأردُّ عليها بنصف ابتسامة أو عدم انتباه حتّى إذا سَلّمَ الإمامُ وسَلَّمْتُ أوّل الخَلْقِ انصرفتُ بِسرعة فلا يجِدُنِي من زاحمته أو دفعته. و كانت كلّ صَلَوَاتِي على هذا النحو تتمّ، أزاحمُ وأسْرع فَلاَ أظهر إلاّ بعد التكبيرة، إلاّ أنّني في ذلك اليوم، وبعد أن سَلَّمْتُ طلبتُ رُكْبَتِي للانصرافِ واستجابت رجلاي للسُّرعةِ تَسَمَّرْتُ عند الباب ولم أستطع الابتعاد عن العتبة وملَكَنِي عياء وعناء وذُعر، وتذكّرتُ مَا حدث لِي والعين فخفتُ أنْ أنْكَشِفَ للنّاسِ، أو أن تكون العين من بين الحاضرين فَلاَ تسترنِي. استندتُ إلى لوح الباب. وبدأتْ رأسِي تدور. و أحسسْتُ بأنّي أنْفطِرُ، ويتّخذ جسدي شكل الباب، ويلتصق به ويصير منه. وبدأ الخارجون بدون حياء يُبعثرون الأحذية بدون نظام. و في تلك اللحظة هَرَبَتْ مِنّي عيْنِي الصغيرة الحمراء والتصقت بالباب المقابل تنظر إلى جسدي الذي صَارَ بلوْنِ المَاءِ، وكَمْ ذُعِرْتُ حين رأيتُ بعينِي أجساد الخارجين تنعكس على وجه جسدي فكانت عيون نساء بَاهتة وزرقاء، وأجساد نساء عارية بيضاء، وكؤوس ذهبيّة ملْآى بمَا أعرفه في أيّام مجوني واستهتاري. و رأيت وُجُوهًا بيضاء ومنقّطة كبيض الحَجل، وشعورًا شقراء. وسمعتُ شهيقًا وحَاءَات. و رأيتُ أيْضًا شفاهً تتحرّكُ ببطء كأنّها سكرى أدركتْ عينِي بأنّها تتحرّك بكلام من المغرب العربي الفقير. و أبصرتُ أنهارًا تجري أوراقًا نقدية كبيرة وصغيرة ومختلفة تحرقها الرّيح والنّار. و رأيتُ جماجم كبيوت العنكبوتِ القديمة تهرّأت بعض أعصابها وخيوطها. وبعدها أبصرتْ عينِي في جسدي انقباضًا وتكمّشًا وتَقزّزًا غير معهود فَمَرَّ رجل أمام جسدي فرأيْتُ القرآن يطير ويهرب، وتفطّرَ قلْبٌ فتقاطر دم أسْود تتشكّل كلّ قطرة منه وجه امرأة شقراء أو سمراء أو ألوان شَتَّى مِمَّا كنتُ أفرغه في كأسِي أيّام احتجَابِي عن النّاس في دور الخناء.
و لَمَّا مَرَّ الرّجل رَجعت عيني وتشكّل جسدي من جديد وعادت إليّ يقظتي فأسرعتُ أطلب الرّجل فإذا به الإمام يتمشَّى جَلاَلاً كأنّه الوَرَعُ الكبير، لا يميل ولاَ يحيد، ثقيل المشي، رصين الظّاهر، لا يلتفت ولا يتحدّثُ. و كنتُ في بعض الأحيان أسبقه ببعض الخُطَى فألتفتُ إليه من فوق كتفِي بنصف عين أتبصّر في وجهه وخلقته الملائكيّة. ثمّ أتخلّف عنه قليلا ألاحظ قفاه فيبدو لِي عظيمًا وجليلاً كالفيل. و تبعتُه حتّى دَخَلَ بَيْتًا، فيه نساء...فَواصَلْتُ سَيْرِي أبحثُ في تلك السّاعة عن طعام وأفكّر فيه. و استيقظَتْ فيَّ شهيّةُ الأكل. و لكنّي قَبَضْتُ أَمْرَ نَفْسِي الخليعة، وعدتُ إلى بيتٍ اكتريتُه للعبادة والقيام والتسبيح والترتيل خَوْفًا مِنْ أنْ أَبْقَى بعد الشهر الطّويل يومين.
تعليقات
إرسال تعليق