رمضان ولّى هاتها يا ساقي بقلم الكاتب أحمد بوقراعة


إنّها ليلة ختم القرآن في صلوات التّراويح؛ليلة السّابع و العشرين من رمضان ؛جموع خاشعة منكّسة الرّؤوس خوفا و رهبة يزلزل عنادها و كبريائها صوت الإمام يرتّل الذّكر الحكيم يرفّعُ و يُخفِّض و يقصّرُ و يمدُّ و يقلقلُ و يفخّمُ و يرقِّقُ .و يقوم المصلُّون لصلاتيْ الشّفع و الوتْر ؛و يشرعُ الإمام في الدّعاء و الإبتهال و التضرّع فَيَبْكِي و يُبْكِي و تصير العين ضرعَ بقر ولود حنون.ويبكي بعض النّاس فيما يبدو خوفا و مذلّة واسترحاما و طمعا.و من الوقوف من يعصر العين لدمعة أو يفتعل الجهر بزفرة يدلّل بها لجيرانه عن رهبة و الإمام سامع كلّ ذلك وهو يدعو و يرتّل فيشهق شهق من يرى النّار فكأنّه داخلها,ترتيل و دعاء و بكاء واستغفار واسترحام و قلوب ببيوت الرّحمان عامرة بالإيمان و الحبّ و أجساد طهّرتها الدّموع و أطرد الخشوع عنها ما كان فيها من نجاسات البشر و أهوائهم و أبعد التضرّعُ النّفس عن الأمر بالسّوء فهي الطّهرُ و ربّما أنقى.
و يسلّم الإمام آخر تسليم فينهض المصلّون سراعا خفافا كأن لم يثقلهم وعيد.مصافحة و معانقة و تودّد و مصافاة وإخاء كأنّهم في اللّحضات الأولى من يوم عيد.و يتزاحم المصلّون نحو الأبواب متدافعين كالهاربين خلاصا من حريق .وضاقت المنافذ بهم فصارت الأعناق كأنّها في أعناق الزّجاجات .كتف يدفع كتفا ,و آخر يناصر أخاه يبحث عن انفراج تمتدّ منه يدٌ لبلْغةٍ داستها الأقدام فتغْتَاظ عيْنٌ و يهمُّ لسان بكلام أو للبحث عن فردة حذاء كثيرا ما اختلطت بالألوان و الأشكال و المقاسات تزيدها بقيّة دمعة في العين اضطرابا و مغالطة و من المصلّين من يصبر على المزاحمة خوف الأذى فقد رأى في المسجد من كان قد قادته يَدُ شرطة أو من كانت في خدّهِ شَرْطَة آية لا تُحْمَدُ ,فالإطمئنان في الزّحمة غفْلَةٌ ,و في الزّحمةِ تموتُ الرّحمة و المطمئن كالصبيّ يدرجُ في ماء على رخام.
; و خلا المسجد من عمّاره و ترك المصلّون ساحته لتغضّ الطريق التي تفصل المصلّى عن المساكن بالمساكين فما يلتفت إليهم أحد إلّا بعض العجائز ممن سلبهنّ العمر أحجار الفم يردّدن :"نثتغفر الله و نثتذير بالله". و في الطّريق جمع غفير مزهوّ و محشوّ في أثواب نظيفة و جميلة يزداد لَغَطُهم و ترتفع أبواقهم و لا تهفت أيديهم و لا تسكن ألسنتهم نفخ فيهم إبليس بخير فظنّوا أنّ باجتماعهم في الطّريق إنّما يغيض بهم الله من لم يرفع مؤخّرة و لم يثن ركبة و لم يحطّ جبهة ,واجتمعت اللّحى باللحى تطوف حول بعضها في لباس أفغاني أو قميص خليجي تشمّر فوق كعبة الرّجل بشبر ,طواف تزكّيه عصور فارسيّة و هنديّة يمسّح بها بعضهم الأكفّ فما قولٌ يسمع إلّا :"جازاك الله خيرا أخي ,و أحسن الله إليك يا أخي,و طيّب ثراك يا أخي ...يا أخي..."فَيُلَطِفُ مَا كان يَظُنُّ شرًّا تحت إبطه و يطيّبُ براحته من يعرف بمنابت شعر لحيته عرقا سخيفا بدأ ييبسُ و يجِفُّ.
و تعلّقت الشّبيبةُ بالشّبيبةِ و في ألسنتها في الشّيب و في اللّحى همزٌ و لمزٌ و لكزٌ و استرخاءٌ في الحديث بغمزٍٍ في سوء عقيدة و رذاذٌٍ في عين بصيرة و عيٍّ في لسان و أيدٍ أصابعها في مناكبها .هؤلاء في هؤلاء .كلٌّ في بعضٍ يخوصون كأن لم يجمعهم في جامعٍ إخاءٌ .
كَان الحَاجْ" رَمَضَانْ" شَيخًا مُسِنًّا, لَكِنْ عَاشَرَتْهُ الصِّحَّةُ و سَكَنَتْهُ العَافِيةُ فَهُوَ أَصْغَرُ مِنْ عُمْرِه الكبير,أوهو ولد كما يقال له على كبر. لم يدع مهنة لغيره, شرّاء بالنهار بيّاع بالليل, ما تركت قدمه ارضا و ما غاب عن وجهه وجه, لسنٌ حدّاثٌ, مخبأٌ للحيلة قادر على الإيهام به يقنع, سمّاعٌ غير حفّاظ ليس في صدره سوى الفاتحة و الإخلاص يقول بهما أصلي و بهما حججت و بهما أعمل وبهما أقرأُ وجوه النّاس. ما رأى في الخلق صوابا الاّ حفر تحته عن عيب ويصيبُ, و يسرد ما يراه دون خوف او محاباة, لا يرى المكانة مانعا لقول يساقُ عفوا.. انّه الحاج "رمضان الولد".نظر اليّ نظرةً مليئة بأشياء لم أستطع فرزها و قال:
_ أما تركنا الطريق الى العمارة ففيها أشياء كثيرة,فيها أفراحٌ و لنا فيها أقواتٌ و أقوالٌ و ربّما لنا فيها تجارةٌ .فسرنا و قد ذهب من اللّيل ثلثه ,و صعدنا إلى سطحٍ به فوقه ناسٌ و صبيةٍ يتراقصونَ و رجالٌ كنتُ رأيتُ أكثرهم بالمسجد يتربّعون حول موائد كأن لم يفطروا من قبل , تشميرٌ على السّواعد و سباق في دفع اللّقمة بأختها و ردْفِها بالماء وصياح في لحمةٍ امْتدّتْ لها يدٌ بعيدةٌ .وجلسنا مع الجالسين نفعلُ ما يفعلون و نمدُّ أيدينا حيث يمدّون و قد تقع اللّحمةُ بينَ أصابع كثيرة تقْهرُها الأصابعُ الغليظة .و من خلف ستائر شدّتْ بحبال يتضاحكُ النّسوةُ و يهرّجْنَ و يعلينَ أصواتهِنَّ.
الى جدار غير عال علّقت بعض الزّرابي المنقوشة الجميلة تتوسّطها واحدة نقش عليها *قل آمنت بالله ثمّ استقم*استند اليها رجال يقودهم رأس لِفْتٍ أبيض أملس يتدلّى مت قبّعته فانسابتْ عريشة خضْرَةٍ تهالكتْ لفقْدِ ماء و رواء.صلّى و سلّم و رحّبَ و نظرَ في جماعته فاذا الصّنج و الدّف و المزمار و رايات ترفعُ و ترفُّ و أصوات تهدرُ بمديح
يا بلْحسنْ يا شاذْلي
بجَاهكْ و بجاهْ الجيلانِي
و سيدي عْمُرْ الكيلانِي
و بجَاهْ سيدي الحفْيَانِي
جِيبُولي حبِيبي الغابي
عامْ و شهْرين ما جَانِي
وآرتمى في الحلقة خلقٌ كثير يشطحُ شطحًا غريبًا وانفلتتْ من وراء السّتار بقعةٌ كبيرةٌ سوداء تدكّ السّطح كمن يتخبّطهُ الشّيطان, و حاق النّاس بها يُصاعدُون الهرج و رفعَ الله ما بين الجنْسين من حُجُبٍ و صارَ كلّ شيء مباحًا ,و بين تهليلة و أخرى تنزعُ البقعةُ السّوداء شيئًا من الظلمةِ حتّى صارتْ زينةً و مفاتن و صدرًا ليس بيننا و بينه حرام واشتمّتْ أنوفنا عطرًا و أزلنا بأيدينا شعرًا تهدّلَ على وجهٍ جميلٍ فسبّحنا للإله تعظيمَا لحسنِ تصويرو رجونا لهَا في أنفُسِنا شيطانًا ذكرًا يُرينا منها ما قد كان يَرَاه.
وانطلقتْ الزّغاريد من كلّ جانب .و أمسك الحاج رمضان بأذني و خلته ينهرني أو يعاتبني فوضعتً عن عيني كفًّا فضحك .كان يستمع الى الزّغاريد و ينصتُ و يصغيو يعدُّ بأصابعه فنظرتُ اليه مستخفًّا بهِ خلْتُ قدْ أخدَ منه المديح يحصي الأولياء و لكنّه التفت اليَّ و قال انّها ذاتُ صحّةٍ و عافية,مقبلة ما أدري أَ أُريدَ بها خير أم ارتمتْ في حجر سوء ,ثمّ أمسك بيدي يقولُ " زغرودة طويلة و أخرى قصيرة و بينهما يا وهّاب و هبتكَ نفسي"ونزل بي الى الطّابق الثّاني فاذا برجلين كثيفي اللّحية يقولان "هنيئًا هذه اللّيلة المباركة لأخينا" فقال لي الشيخ رمضان "كان شاهديْ زواج ليلة, و الزوج عبد الوهّاب ,و غدا آتيك بعدَ طلاقهما بالخبر أكانت ثيِّبًا أم بكرًا"ثمّ سكتَ قليلا و قالَ "أيكونُ قد انفتحَ في السّنة بابٌ يرى في هذا سبيلا صحيحًا في تكثيرِ نسلٍ لمجاهدة الكفّار و أبناء الشّيعة الإثنا عشرية الحرام....كلّ شيء ممكن في هذه الليلة المباركة....ليلة ختم القرآن...."
تمّت

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

شتوية ما كيفهاش جزء 1 بقلم رؤوف سليمان

حكايتنا بقلم سمير الفرحاني

أنا البحر بقلم عماد إيلاهي